الجمعة، 17 أبريل 2020

كتاب حياة في الإدارة


 كتاب حياة في الإدارة تأليف غازي القصيبي 385 صفحة دار النشر المؤسسة العربية للدراسات و النشر

حياة في الإدارة كتاب فريد في نوعه فهو سيرة ذاتية سلطت الضوء على الجانب الإداري من حياة المؤلف غازي القصيبي سيرته كانت حتى وفاته غنية بالكثير مما يستحق الحديث عنه في هذا الجانب. كتبها صاحبها بنسق روائي متصل، لم يتم تقسيمه لأجزاء بأي طريقة من الطرق، وكأن صاحبها أراد أن يوحي للقارئ بأنها كتبت بجرة قلم واحدة، وبدفقة فكر متصلة، منذ أن خط الحرف الأول وحتى وضع نقطة السطر الأخير.

ابتدأ القصيبي في حياة في الإدارةمن بعد مقدمته، بالحديث عن طفولته، مبررا ذلك بالقول بأن “لا شك أن علاقة الإنسان المعاصر بالإدارة تبدأ مع الطفولة”، ليصف بعد ذلك بسطور تلك المرحلة بقوله “ترعرعت أتأرجح بين قطبين رئيسيين، أولهما أبي رحمه الله، وكان يتسم بالشدة والصرامة، وكان الخروج إلى الشارع محرماً على سبيل المثال، وثانيهما جدتي لأمي رحمها الله، وكانت تتصف بالحنان المفرط والشفقة المتناهية على “الصغير اليتيم”، أستطيع أن أقول أن حصيلة السنوات الخمس الأولى في حياتي كانت وحدة مشوبة بالحزن، وطفولة تنمو تحت عين أب حازم صارم وفي كنف جدة رؤوم حنون، هل تركت هذه الطفولة في عقلي الباطن ميراث وسم بسماته حياتي الإدارية؟ علم هذا عند ربي…. إنني أعتقد أنني نشأت وفي أعماقي إحساس كامن بأن السلطة بلا حزم، تؤدي إلى تسيب خطر، وإن الحزم، بلا رحمة، يؤدي إلى طغيان أشد خطورة”.

وبعد ذلك ينتقل بسيرته إلى مرحلة سنوات الدراسة الأولى، متحدثا عن مسألة الانضباط والالتزام بقوله “كان الطلبة يصطفون في طوابير كل صباح، ويتولى التفتيش على نظافة الأظافر مدرس مختلف كل يوم. من هؤلاء المدرسين من كان تفتيشه شكليا سريعا، ومنهم من كان بحثه دقيقا مستقصيا. منهم من كان يكتفي بلفت النظر، ومنهم من كان يستخدم مسطرة غليظة تهوى على الأظافر القذرة. وكان من بين المدرسين مدرس لا يكتفي بالنظر إلى الأظافر بل كان يسأل كل واحد منا إذا كان قد استحم ذلك الصباح. إذا أجاب الطالب بالإيجاب نجا من العقاب وإذا ذكر الحقيقة، والحقيقة هي أن أنظفنا لم يكن يستحم سوى مرة واحدة في الأسبوع هوت المسطرة على الأصابع… كان المدرس يصدق من يزعم أنه استحم ولو كانت كل الشواهد تكذب هذا الزعم، أعتقد أنه كان يستهدف تشجيعنا على النظافة والصدق إلا أن كل ما فعله هو إغراؤنا بالكذب”.

ثم ينتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن العلاقة الأكثر شيوعا ما بين كل رئيس ومرؤوسيه في عالمنا العربي، مستذكرا نموذجا أوليا لهذه العلاقة من أيام دراسته الأولى حيث كتب يقول “كان المدير أيامها يمثل جانب العقاب، وهذا الجانب وحده. كان إرسال طالب إلى المدير يعني بصفة تلقائية، أن ترتفع الخيزرانة وتهوي على يد الطالب مرتين على الأقل، وعشر مرات على الأكثر. لم أسمع بحالة واحدة ذهب فيها طالب إلى المدير ليسمع ثناء أو يتلقى جائزة. كانت العلاقة بين الطلاب والمدير قائمة على الخوف، ولا شيء غير الخوف”.

بعد ذلك بصفحات يتناول المؤلف الآفة الإدارية الأكبر في دول العالم الثالث، والتي هي آفة البيروقراطية حيث كتب ينتقدها “لم يقتصر الأمر على البيروقراطية الجامعية، فقد كانت هناك بيروقراطية أضخم، بيروقراطية الحكومة. كان تجديد الإقامة يتطلب زيارة دولية إلى مبني المجمع الحكومي في ميدان التحرير. كانت الطوابير لا تنتهي، وأوراق الدمغة لا تنتهي، والتوقيعات لا تنتهي. كان المحظوظ منا هو الذي يستطيع إنهاء معاملته في يومين أو ثلاثة، ولم يكن أحد يستطيع إنهاءها بهذه السرعة إلا بواسطات مع عدد من الموظفين”. وأردف بعد ذلك بسطور ليتحدث عن الآفة الإدارية اللصيقة بالبيروقراطية، آفة الرشوة مستذكرا حادثة جرت معه قائلا “فوجئت بموظف في قسم الشرطة يطرق باب الشقة ويخبرني أن علي مراجعة القسم، يوميا لمدة شهر كامل للتأكد من عدم إصابتي بمرض معد. كنت أظن أنه يمزح، إلا أنه أخرج مرسوما من العهد الخديوي، يتضمن هذا الإجراء ولا يزال ساري المفعول. قلت له أني لا أستطيع، والامتحان على الأبواب، أن أقوم بهذه الزيارة اليومية. وكان الحل في الجنيه الذي تسلمه الموظف وذهب. بقي المرسوم الخديوي بلا تطبيق، وتعلم الطالب اليافع تقديم الرشاوي (آسف! الإكراميات!)”.

وكذلك لم يفت القصيبي في هذه السيرة الممتدة أن يكتب عن الخصلة الأهم لكل إداري ناجح، والتي هي حفظ الوقت والالتزام بالمواعيد، فكتب “إنني اعتقد أن الذين لا يستطيعون التقيد بالمواعيد لا يستطيعون تنظيم حياتهم على نحو يجعلهم منتجين بحد عال من الكفاءة. ذات يوم، وكنت وزير الصناعة والكهرباء، رشح لي بعض الأصدقاء رجلا قالوا إنه يصلح لمنصب وكيل الوزارة الذي كان شاغرا وقتها. حددت موعدا لمقابلته في منزلي، وجاء بعد الموعد بأكثر من ساعة دون أن يعتذر عن التأخير. إذا كان هذا تعامله مع الوزير فكيف سيتعامل مع المراجعين؟ غني عن الذكر أن المرشح لم يصبح وكيل وزارة، حتى هذه اللحظة”.

وتناول المؤلف في موقع آخر من الكتاب أهمية إلمام الإداري الناجح بجميع المعلومات المتعلقة بالمشروع الذي بين يديه، فاسترجع حادثة جرت مع أبيه والملك عبد العزيز، بقوله” إذا كان لابد من تحديد مسئول حقيقي عن التورط _ في حرب اليمن _ فان المسئولية تقع على نقص المعلومات. لم يكن عبد الناصر أو أحد من الذين كانوا حوله يعرف شيئا عن اليمن، تاريخيا وشعبا وجغرافيا وتقاليد وعادات… قارن هذا الموقف بموقف الملك عبد العزيز خلال الحرب السعودية /اليمنية من اليمن نفسها… حيث أمر بوقف قواته المتقدمة في اليمن ثم أمر بسحبها. استغرب أبي هذا الموقف وأبدى استغرابه أمام الملك عدة مرات، في النهاية استدعاه الملك وقال له وهما على انفراد : يا عبد الرحمن أنت لا تعرف شيئا عن اليمن، هذه بلاد جبلية قبلية لا يستطيع أحد السيطرة عليها، كل من حاول عبر التاريخ فشل… لا أريد أن أتورط في اليمن وأورط معي شعبي”.

كانت هذه نماذج بسيطة من الكثير الذي ورد في هذه السيرة الشيقة للراحل المبدع الدكتور غازي القصيبي، وهي التي لا تزال تشتمل على العديد مما هو جدير بالقراءة والتأمل، مما ساهم، هو وتلك الشخصية السياسية الساحرة والجاذبية والجدلية الإعلامية التي أحاطت بهذا المبدع العربي طوال حياته، ومن بعد مماته، في جعل “حياة في الإدارة” واحدا من الكتب العربية الأكثر شهرة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق